همها الأول كرامتها وكرامة أولادها. امرأة قوية وتريد لأبنائها وبنتها أن يكونوا أقوياء مثلها. غرس فيها والدها الحنون منذ صغرها ثقتها بنفسها، وعزز فيها منذ الصغر معنى العزة بالنفس وبالحق، وعدم الالتفات لكلام الناس.
تزوجت هويدا حسني منذ عشرين سنة من عامل بسيط، وأنجبت منه أربعة أبناء. اعتاد الزوج أن يعمل “غفيراً” أي يقوم بحراسة العقارات لمن يطلبه. أقامت عند زواجها في بيت عائلة زوجها، ومع اثنين من إخوته.
رباها والدها على الاعتماد على النفس، وعدم الاستسلام للصعاب. نظرت في حال زوجها بعد الزواج، فوجدت أن مهنته لا يمكن أن تضمن لهم حياة كريمة، وللأولاد متطلباتهم. فكرت منذ زمن في إقامة بعض المشروعات الخاصة بها. في البداية أنشأت مشروعاً صغيراً لبيع الكنافة النيئة، مشروع سهل، ولا يحتاج لإمكانيات عظيمة، فقط دقيق وماء ونار، والأمر بعد ذلك يتوقف على التسويق. لم ينجح، فلم تكن تمتلك خبرة المشروعات.
لم تيأس هويدا من فشل مشروعها الأول. فكرت في عمل مشروع آخر. فكرت في تجارة أنابيب الغاز. تشتري الأنبوبة بخمس جنيهات، تبيعها بسبع جنيهات. دبرت نقل الأنابيب عن طريق أحد الجيران الذي تطوع بنقلهم لها أسبوعياً. مبلغ عظيم من المال وفرتها، بتدخل هذا الرجل الخير. تكسب اثنين من الجنيهات في الأنبوبة الواحدة. مكسب عظيم لهذه الأسرة المتواضعة. اعتادت أن تتكسب أربعين جنيه كل أسبوع. كانت كثيراً ما تدخر هذه النقود، لعلها تحتاجها يوماً ما.
فتحت لهم السماء طاقة خير، سافر زوجها إلى الكويت، ليعمل نفس عمله بمصر، حارس عقار. وبدأ الزوج في إرسال مصروف شهري لأسرته. بحكم متعجل يمكنك أن تقول أن حالتها المادية لا بأس بها مقارنة بجيرانها في قرية تتاليا، في محافظة أسيوط. أسرة ميسورة، إذا نظرنا إلى وضع جيرانها البائس، ولكن واقع الحال يقول أن دخلهم يتجاوز بالكاد الحد الأدنى للأجور الذي يحصل عليه العاملون في مصر. عانت الأسرة كثيراً حتى تتحصل على هذا الحد الأدنى الذي يكفل حياة اجتماعية كريمة.
فجأة، ودون مقدمات قرر أخوة زوجها ترك المنزل والاستقلال بمنزل خاص بكل منهم. الصغار كبروا، وأصبحوا بحاجة لبيت كبير. والأمر نفسه ينطبق على أولاد هويدا. قرر الأخوة أن يبيعوا المنزل. رفضت هويدا، وتعجب زوجها من رفضها. ونشب بينهم نقاش حاد انتهى بأن قالت له “أنا عن رأيي، وبكرة تعرف مين كان صح.” قررت هويدا أن تشتري نصيب أخوته بالبيت. باعت بيت كانت تمتلكه. وقطعة أرض صغيرة بحلوان، بجنوب القاهرة، وأضافت على كل هذا ما أدخره زوجها من سفره، كل هذا ولم يكف. اقترضت حتى تسدد ما طلبه أخوته ثمناً لنصيبهم في منزل العائلة، وأخيرا وفت لهم ما تعهدت لهم به من قبل، “سأدفع مثل الغريب وأكثر.” وامتلك هويدا بيت العائلة كاملاً.
أرّقها الدّين. فكرت في الطريقة التي ستسدد بها آلاف الجنيهات التي اقترضتها. سمعت عن مجموعات الإدخار التي تقيمها هيئة كير في قريتها. أدخلت كل أولادها. دخلت باسمين لكل ولد وبنت. وبعد وقت قصير حصلت على قرض من الصندوق، فقد فكرت في إقامة مشروع جديد. ولدها الذي وصل إلى المرحلة الثانوية في التعليم كان يعمل في “الكهرباء”. فكرت الأم بعد أن نظرت حولها بالقرية في أن تفتح دكاناً صغيراً بالمنزل لبيع الأدوت الكهربائية والأسلاك وكل لوازم تركيب الكهرباء منزلياً. حسها التجاري العالي، ونظراً لأنه الدكان الوحيد بالقرية الذي يبيع لوازم الكهرباء، نجح، ونجح مشروعها. ورغم هذا النجاح لازال هذا الزوج مصراً على العمل بالكويت، رغم إيمان زوجته بأن أولاده أولى به.
تقضي هويدا الصباح في دكانها، حتى يعود ولدها من عمله ليحتل مكانها. يساعدها الأولاد، ويدعمها الزوج، وإن كان مؤمناً بأن لا دور له في هذا المشروع، فهو مشروعها. “حياتي فرقت كتير لم اعد احتاج لاحد وعيالي كمان مش محتاجين لحد.” هكذا ختمت هويدا حديثها، بعدما قصّت كلام الناس عنها وسخريتهم منها، ولكن الثقة التي غرست بداخلها منذ ولادتها هي التي أهلتها لتكمل مشوارها. لذا، تحرص هويدا على تعليم ابنتها الصعرى. “لن تتزوج حتى تتعلم.””لازم العيل يتعلم ويبقى عوده مشدود، ويكون له رأي وما يخليش حد يذله.” هذه هي الرسائل التي ترسلها هويدا يومياً لأبنائها، وهذه هي غاية الحياة بالنسبة لها، أن يعيشوا بعزة وكرامة.